فصل: شهر ذي الحجة سنة 1214:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.شهر ذي الحجة سنة 1214:

واستهل شهر ذي الحجة بيوم الجمعة، وفيه خرج العثمانية وعساكرهم وابراهيم بك وأمراؤه ومماليكه والألفي وأجناده ومعهم السيد عمر مكرم النقيب والسيد أحمد المحروقي الشاه بندر وكثيرون من أهل مصر، ركباناً ومشاة. الى الصالحية، وكذلك حسن بك الجداوي وأجاده، وأما عثمان بك حسن ومن معه فرجعوا صحبة الوزير، فلم يسع ابراهيم بك وحسن بك ترك جماعتهما خلفهما وذهابهم بأنفسهم الى قبلي، بل رجعا بجماعتهما على إثرهما وذاقوا وبال أمرهم وانكشف الغبار عن تعسة المسلمين وخيبة أمل الذاهبين والمتخلفين، وما استفاد الناس من هذه العمارة وما جرى من الغارة إلا الخراب والسخام والهباب، فكانت مدة الحرب والحصر بما فيها من الثلاثة أيام الهدنة سبعة وثلاثين يوماً، وقع بها من الحروب والكروب والانزعاج والشتات والهياج وخراب الدور وعظائم الأمور وقتل الرجال ونهب الأموال وتسلط الأشرار وهتك الأحرار، وخصوصاً ما أوقع الفرنساوية بالناس بعد ذلك مما سيتلى عليك بعضه، وخرب في هذه الواقعة عدة جهات من أخطاط مصر الجليلة مثل جهة الأزبكية الشرقية من حد جامع عثمان والفوالة وحارة كتخدا رصيف الخشاب وخطة الساكت، الى بيت ساري عسكر بالقرب من قنطرة الدكة. وكذلك جهة باب الهواء الى حارة النصارى من الجهة القبلية، وأما بركة الرطلي وما حولها من الدور والمنتزهات والبساتين فإنها صارت كلها تلالاً وخرائب وكيمان أتربة وقد كانت هذه البركة من أجل منتزهات مصر قديماً وحديثاً وبالقرب منها المقصف المعروف بدهليز الملك والبرنج والجسر، وكانت تعرف ببركة الطوابين، ثم عرفت ببركة الحاجب منسوبة للأمير بكتمر الحاجب من أمراء الملك الناصر محمد بن قلاوون لأنه هو الذي احتفرها، وأجرى إليها الماء من الخليج الناصري، وبنى القنطرة المنسوبة إليه وعمر عليها الدور والمناظر، وبنى على الجسر الفاصل بينها وبين الخليج دوراً بهية، وكان هذا الجسر من أجل المنتزهات وقد خربت منازله في القرن العاشر في واقعة السلطان سليم خان مع الغوري، وصار محله بستاناً عظيماً قطع أشجاره وغالب نخيله الفرنساوية.
ومما تخرب أيضاً حارة المقس من قبل سوق الخشب الى باب الحديد، وجميع ما في ضمن ذلك من الحارات والدور صارت كلها خرائب متهدمة محترقة تسكب عند مشاهدتها العبرات ويتذكر بها ما يتلى في حق الظالمين من الآيات، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون، وقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}.
وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.
ودخل الفرنساوية الى المدينة يسعون والى الناس بعين الحقد ينظرون، واستولوا على ما كان اصطنعه وأعده العثمانية والقنابر والبارود وآلات الحرب جميعها، وقيل إنهم حاسبوهم على كلفته ومصاريفه وقبضوا ذلك من الفرنساوية.
وركب المشايخ والأعيان عصر ذلك اليوم وذهبوا الى كبير الفرنسيس، فلما وصلوا الى داره ودخلوا عليه وجلسوا ساعة أبرز إليهم ورقة مكتوب فيها: النصرة لله الذي يريد أن المنصور يعمل بالشفقة والرحمة مع الناس، وبناء على ذلك ساري عسكر العام يريد أن ينعم بالعفو العام والخاص على أهل مصر وعلى أهل بر مصر، ولو كانوا يخالطون العثملي في الحروب. وأنهم يشتغلون بمعايشهم وصنائعهم، ثم نبه عليهم بحضورهم الى قبة النصر بكرة تاريخه.
ثم قاموا من عنده وشقوا المدينة وطافوا بالأسواق وبين أيديهم المناداة للرعية بالاطمئنان والأمان، فلما أصبح ذلك اليوم ركبت المشايخ والوجاقلية وذهبوا الى خارج باب النصر. وخرج أيضاً القلقات والنصارى القبط والشوام وغيرهم، فلما تكامل حضور الجميع رتبوا موكباً وساروا ودخلوا من باب النصر وقدامهم جماعة من القواسة يأمرون الناس بالقيام وبعض فرنساوية راكبين خيلاً وبأيديهم سيوف مسلولة ينهرون الناس ويأمرونهم بالوقوف على أقدامهم، ومن تباطأ في القيام أهانوه، فاستمرت الناس وقوفاً من ابتداء سير الموكب الى انتهائه، ثم تلا الطائفة الآمرة للناس بالوقوف جمع كثير من الخيالة الفرنساوية بأيديهم سيوف مسلولة وكلهم لابسون جوخاً أحمر وعلى رؤوسهم طراطير من الفراوي على غير هيئة خيالتهم ومشاتهم، ثم تتالى بعد هؤلاء طوائف العساكر ببوقاتهم وطبولهم وزمورهم واختلاف أشكالهم وأجناسهم وملابسهم من خيالة ورجالة، ثم الأعيان والمشايخ والوجاقلية وأتباعهم، الى أن قدم ساري عسكر الفرنساوية وخلف ظهره عثمان بك البرديسي وعثمان بك الأشقر. وخلفهم طوائف من خيالة الفرنسيس.
ولما انقضى أمر الموكب نادوا بالزينة فزينت البلد ثلاثة أيام، آخرها يوم الثلاثاء مع السهر ووقود القناديل ليلاً، ثم دعاهم في يوم الأربعاء وعمل لهم سماطاً عظيماً على طريقة المصرلية.
وقلدوا في ذلك اليوم محمد آغا الطناني أغات مستحفظان، وركب ونادى بالأمان وأعطوا البكري بيت عثمان كاشف كتخدا الحج، وهو بيت البارودي الثاني، فسكن به وشرع في تنظيمه وفرشه، ولبسوه في ذلك اليوم فروة سمور، فقاموا من عنده فرحين مطمئنين مستبشرين.
فلما كان يوم الخميس سابعه ذهب الى مراد بك بجزيرة الذهب باستدعاء فمد لهم أسمطة عظيمة وانبسط معهم وافتخر افتخاراً زائداً وأهدى الى بعضهم هدايا جليلة وتقادم عظيمة. وأعطاه ما كان أرسله درويش باشا معونة للباشا والأمراء من الأغنام وغيرها، وكانت نحو الأربعة آلاف رأس وولوه إمارة الصعيد من جرجا الى أسنا، ورجع عائداً الى داره بالأزبكية فلما كان في صبحها يوم الجمعة ثامنه بكروا بالذهاب الى بيت ساري عسكر ولبسوا أفخر ثيابهم وأحسن هيآتهم، وطمع كل واحد منهم وظن أن ساري عسكر يقله في هذا اليوم أجل المناصيب، أو ربما حصل التغيير والتبديل في أهل الديوان، فيكون في الديوان الخصوصي، فلما استقربهم الجلوس في الديوان الخارج أهملوا حصة طويلة لم يؤذن لهم ولم يخاطبهم أحد، ثم فتح باب المجلس الداخل وطلبوا الى الدخول فيه فدخلوا وجلسوا حصة مثل الأولى، ثم خرج إليهم ساري عسكر وصحبته الترجمان وجماعة من أعيانهم فوضع له كرسي في وسط المجلس وجلس عليه، ووقف الترجمان وأصحابه حواليه واصطف الوجاقلية والحكام من ناحية، وأعيان النصارى والتجار من ناحية، وعثمان بك الأشقر والبرديسي أيضاً حاضران، وكلم ساري عسكر الترجمان كلاماً طويلاً بلغتهم حتى فرغ، فالتفت الترجمان الى الجماعة وشرع يفسر لهم مقالة ساري عسكر ويترجم عنها بالعربي والجماعة يسمعون، فكان ملخص ذلك القول إن ساري عسكر يطلب منكم عشرة آلاف ألف الى آخر العبارة الآتية، وأما هذه العبارة فإنه قالها المهدي: فقط إننا لما حضرنا الى بلدكم هذه نظرنا أن أهل العلم هم أعقل الناس، والناس بهم يقتدون ولأمرهم يمتثلون، ثم أنكم أظهرتم لنا المحبة والمودة وصدقنا ظاهر حالكم فاصطفيناكم وميزناكم على غيركم، واخترناكم لتدبير الأمور وصلاح الجمهور فرتبنا لكم الديوان وغمرناكم بالإحسان وخفضنا لكم جناح الطاعة وجعلناكم مسموعين القول مقبولين الشفاعة، وأوهمتونا أن الرعية لكم ينقادون ولأمركم ونهيكم يرجعون، فلما حضر العثملي فرحتم لقدومهم وقمتم لنصرتهم، وثبت عند ذلك نفاقكم لنا، فقالوا له: نحن ما قمنا مع العثملي إلا عن أمركم لأنكم عرفتمونا أننا صرنا في حكم العثملي من ثاني شهر رمضان، وأن البلاد والأموال صارت له وخصوصاً وهو سلطاننا القديم وسلطان المسلمين، وما شعرنا إلا بحدوث هذا الحادث بينكم وبينهم على حين غفلة، ووجدنا أنفسنا في وسطهم فلم يمكننا التخلف عنهم. فرد عليهم الترجمان ذلك الجواب ثم أجابهم بقوله: ولأي شيء لم تمنعوا الرعية عما فعلوه من قيامهم ومحاربتهم بنا؟، فقالوا: لا يمكننا ذلك خصوصاً وقد تقوتوا علينا بغيرنا وسمعتم ما فعلوه معنا من ضربنا وبهدلتنا عندما أشرنا عليهم بالصلح وترك القتال، فقال لهم: وإذا كان الأمر كما ذكرتم ولا يخرج من يدكم تسكين الفتنة ولا غير ذلك فما فائدة رياستكم، وايش يكون نفعكم إلا الضرر لأنكم إذا حضر أخصامنا قمتم معهم وكنتم وإياهم علينا، وإذا ذهبوا رجعتم إلينا معتذرين، فكان جزاؤكم أن نفعل معكم كما فعلنا مع أهل بولاق من قتلكم عن آخركم وحرق بلدكم وسبي حريمكم وأولادكم، ولكن حيث أننا أعطيناكم الأمان فلا ننقض أماننا ولا نقتلكم، وإنما نأخذ منكم الأموال، فالمطلوب منكم عشرة آلاف ألف فرنك، عن كل فرنك ثمانية وعشرون فضة يكون فيها ألف ألف فرانسة، عنها خمس عشرة خزنة رومي بثلاث عشرة خزنة مصري، منها خمسمائة ألف فرانسة على مائتين، على الشيخ السادات خاصة من ذلك خمسمائة وخمسة وثلاثون ألفاً، والشيخ محمد بن الجوهري خمسون ألفاً. وأخيه الشيخ فتوح خمسون ألفاً، والشيخ مصطفى الصاوي خمسون ألفاً، والشيخ العناني مائتان وخمسون ألفاً، نقطتعها من ذلك نظير نهب دور الفارين مع العثملي، مثل المحروقي والسيد عمر مكرم وحسين آغا شتن وما بقي تدبرون رأيكم فيه وتوزعونه على أهل البلد، وتتركون عندنا منكم خمسة عشر شخصاً، انظروا من يكون فيكم رهينة عندنا حتى تغلقوا ذلك المبلغ، وقام من فوره ودخل مع أصحابه الى داخل وأغلق بينه وبينهم الباب.
ووقف الحرس على الباب الآخر يمنعون من يخرج من الجالسين، فبهت الجماعة وامتقعت وجوههم ونظروا الى بعضهم البعض وتحيرت أفكارهم، ولم يخرج عن هذا الأمر إلا البكري والمهدي، لكون البكري حصل له ما حصل في صحائفهم، والمهدي حرق بيته بمرأى منهم. وكان قبل ذلك نقل جميع ما فيه بداره بالخرنفش ولم يترك به إلا بعض الحصر، ولم يكن به غير بعض الخدم، وكان يستعمل المداهنة وينافق الطرفين بصناعته وعادته، ولم تزل الجماعة في حيرتهم وسكرتهم وتمنى كل منهم أنه لم يكن شيئاً مذكوراً، ولم يزالوا على ذلك الحال الى قريب العصر حتى بال أكثرهم في ثيابه وبعضهم شرشر ببوله من شباك المكان، وصاروا يدخلون على نصارى القبط ويقعون في عرضهم، فالذي انحشر فيهم ولم يكن معدوداً من الرؤساء أخرجوه بحجة أو سبب وبعضهم ترك مداسه وخرج حافياً وما صدق بخلاص نفسه.
هذا والنصارى والمهدي يتشاورون في تقسيم ذلك وتوزيعه وتدبيره وترتيبه في قوائم حتى وزعوها على الملتزمين وأصحاب الحرف حتى على الحواة والقردتية والمخيظين والتجار وأهل الغورية وخان الخليلي والصاغة والنحاسين والدلالين والقبانين وقضاة المحاكم وغيرهم. كل طائفة مبلغ له صورة ثمل ثلاثين ألف فرانسا وأربعين ألفاً، وكذلك بياعون التنباك والدخان والصابون والخردجية والعطارون والزياتون والشواؤون والجزارون والمزينون وجميع الصنائع والحرف، وعملوا على أجرة الأملاك والعقار والدور أجرة سنة كاملة، ثم أنهم استأذنوا للمشايخ الخالص يتوجه حيث أراد والمشبوك يلزمون به جماعة من العسكر حتى يغلق المطلوب منه، فأما الصاوي وفتوح بن الجوهري فحبسوهما ببيت قائمقام والعناني هرب فلم يجدوه، وداره احترقت فأضافوا غرامته على غرامة الشيخ السادات كملت بها مائة وخمسون ألف فرانسة، وانفض المجلس على ذلك وركب ساري عسكر من يومه ذلك وذهب الى الجيزة، ووكل يعقوب القبطي يفعل في المسلمين ما يشاء وقائمقام والخازندار لرد الجوابات وقبض ما يتحصل وتدبير الأمور والرهونات، ونزل الشيخ السادات وركب الى داره فذهب معه عشرة من العسكر وجلسوا على باب داره، فلما مضت حصة من الليل حضر إليه مقدار عشرة من العسكر أيضاً فأركبوه وطلعوا به الى القلعة وحبسوه في مكان، فأرسل الى عثمان بك البرديسي وتداخل عليه، فشفع فيه فقالوا له: أما القتل فلا نقتله لشفاعتك وأما المال فلابد من دفعه ولابد من حبسه وعقوبته حتى يدفعه، وقبضوا على فراشه ومقدمه وحبسوهما. ثم أنزلوه الى بيت قائمقام فمكث به يومين ثم أصعدوه الى القلعة ثانياً وحبسوه في حاصل ينام على التراب ويتوسد بحجر، وضربوه تلك الليلة، فأقام كذلك يومين ثم طلب زين الفقار كتخدا فطلع إليه هو وبرطلمان فقال لهما: أنزلوني الى داري حتى أسعى وأبيع متاعي وأشهل حالي. فاستأذنوا له وأنزلوه الى داره فأحضر ما وجده من الدراهم فكانت تسعة آلاف ريال معاملة. عنها ستة آلاف ريال فرانسة، ثم قوموا ما وجدوه من المصاغ والفضيات والفراوي والملابس وغير ذلك بأبخس الثمن، فبلغ ذلك خمسة عشر ألف فرانسة، فبلغ المدفوع بالنقدية والمقومات أحداً وعشرين ألف فرانسة، والمحافظون عليه من العسكر ملازمونه، ولا يتركونه يطلع الى حريمه ولا الى غيره، وكان وزع حريمه وابنه الى مكان آخر، وبعد أن فرغوا من الموجودات جاسوا خلال الدار يفتشون ويحفرون الأرض على الخبايا حتى فتحوا الكنيفات ونزلوا فيها فلم يجدوا شيئاً، ثم نقلوه الى بيت قائمقام ماشياً وصاروا يضربونه خمسة عشر عصا في الصباح ومثلها في الليل، وطلبوا زوجته وابنه فلم يجدوهما فأحضروا محمداً السندوبي تابعه وقرروه، حتى عاين الموت حتى عرفهم بمكانهما، فأحضروهما وأودعوا ابنه عند أغات الانكشارية وحبسوا زوجته معه، فكانوا يضربونه بحضرتها وهي تبكي وتصيح وذلك زيادة في الإنكاء، ثم أن المشايخ وهم الشرقاوي والفيومي والمهدي، والشيخ محمد الأمير وزين الفقار كتخدا تشفعوا في نقلها من عنده فنقلوها الى بيت الفيومي، وبقي الشيخ على حاله وأخذوا مقدمه وفراشه وحبسوهما وتغيب أكثر أتباعه واختفوا، ثم وقعت المراجعة والشفاعة في غرامة الشيخ فتوح الجوهري والصاوي فأضعفوها وجعلوها على كل واحد منها خمسة عشر ألف فرانسة ورد الباقي على الفردة العامة.
وأما الشيخ محمد ابن الجوهري فإنه اختفى فلم يجدوه فنهبوا داره ودار نسيبه المعروف بالشويخ ثم أنه توسل بالست نفيسة زوجة مراد بك، فأرسلت الى مراد بك وهو بالقرب من الفشن فأرسل من عنده كاشفاً وتشفع فيه فقبلوا شفاعته ورفعوها عنه وردوها أيضاً علي الفردة العامة، ثم أنهم وكلوا بالفردة العامة وجميع المال يعقوب القبطي، وتكفل بذلك وعمل الديوان لذلك ببيت البارودي، وألزموا الآغا بعدة طوائف كتبوها في قائمة بأسماء أربابها وأعطوه عسكراً وأمره بتحصيلها من أربابها، وكذلك علي آغا الوالي الشعراوي وحسن آغا المحتسب وعلي كتخدا سليمان بك، فنهبوا على الناس بذلك وبثوا الأعوان بطلب الناس وحبسهم وضربهم، فدهى الناس بهذه النازلة التي لم يصابوا بمثلها ولا ما يقاربها.
ومضى عيد النحر ولم يلتفت إليه أحد بل ولم يشعروا به ونزل بهم من البلاء والذل ما لا يوصف، فإن أحد الناس غنياً كان أو فقيراً لابد وأن يكون من ذروي الصنائع أو الحرف فيلزمه دفع ما وزع عليه في حرفته أو في حرفيته وأجرة داره أيضاً سنة كاملة، فكان يأتي على الشخص غرامتان أو ثلاثة ونحو ذلك، وفرغت الدراهم من عند الناس واحتاج كل الى القرض فلم يجد الدائن من يدينه لشغل كل فرد بشأنه ومصيبته، فلزمهم بيع المتاع فلم يوجد من يشتري، وإذا أعطوهم ذلك لا يقبلونه، فضاق خناق الناس وتمنوا الموت فلم يجدوه، ثم وقع الترجي في قبول المصاغات والفضيات، فأحضر الناس ما عندهم فيقوم بأبخس الأثمان. وأما أثاثات البيوت من فرش ونحاس وملبوس فلا يوجد من يأخذه، وأمروا بجمع البغال ومنعوا المسلمين من ركوبها مطلقاً سوى خمسة أنفار من المسلمين، وهم الشرقاوي والمهدي والفيومي والأمير وابن محرم والنصارى المترجمين وخلافهم لا حرج عليهم، وفي كل وقت وحين يشتد الطلب وتنبث المعينون والعسكر في طلب الناس، وهجم الدور وجرجرة الناس حتى النساء من أكابر وأصاغر وبهدلتهم وحبسهم وضربهم، والذي لم يجدوه لكونه فر وهرب يقبضون على قريبه أو حريمه أو ينهبون داره، فإن لم يجدوا شيئاً ردوا غرامته على أبناء جنسه وأهل حرفته.
وتطاولت النصارى من القبط والنصارى الشوام على المسلمين بالسب والضرب، ونالوا منهم أغراضهم وأظهروا حقدهم، ولم يبقوا للصلح مكاناً، وصرحوا بانقضاء ملة المسلمين وأيام الموحدين، هذا والكتبة والمهندسون والبناؤون يطوفون ويحررون أجر المكان والعقارات والوكائل والحمامات ويكتبون أسماء أربابها وقيمتها.
وخرجت الناس من المدينة وجلوا عنها وهربوا الى القرى والأرياف، وكان ممن خرج من مصر صاحبنا النبيه العلامة الشيخ حسن المشار إليه فيما تقدم، فتوجه لجهة الصعيد وأقام بأسيوط فأقام بها نحو ثمانية عشر شهراً.
ثم أن أكثر الفارين رجع الى مصر لضيق القرى وعدم ما يتعيشون به فيها وانزعاج الريف بقطاع الطريق والعرب والمناسر بالليل والنهار والقتل فيما بينهم وتعدي القوي على الضعيف. واستمرت الطرق محفرة والأسواق معفرة والحوانيت مقفولة والعقول مخبولة والنفوس مطبوقة والغرامات نازلة والأرزاق عاطلة والمطالب عظيمة والمصائب عميمة والعكوسات مقصودة والشفاعات مردودة، وإذا أراد الإنسان أن يفر الى أبعد مكان وينجو بنفسه ويرضى بغير أبناء جنسه لا يجد طريقاً للذهاب وخصوصاً من الملاعين الأعراب الذين هم أقبح الأجناس وأعظم بلاء محيط بالناس، وبالجملة فالأمر عظيم والخطب جسيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد.
وفي عشرينه انتقلوا بديوان الفردة من بيت البارودي الى بيت القيسرلي بالميدان، ووقع التشديد في الطلب والانتقام بأدنى سبب، وانقضى هذا العام وما جرى فيه من الحوادث العظام إقليم مصر والشام والروم والبيت الحرام.
فمنها وهو أعظمها تعطيل الثغور ومنع المسافرين براً وبحراً، ووقوف الانكليز بثغر الإسكندرية ودمياط يمنعون الصادر والوارد، وتخطوا أيضاً بمراكبهم الى بحر القلزم.
ومنها انقطاع الحج المصري في هذا العام أيضاً حتى لم يرجع المحمل بل كان مودوعاً بالقدس، فلما حضر العساكر الإسلامية أحضروه صحبتهم الى بلبيس.
فيقال إن السيد بذرا رجع به الى جبل الخليل.
ومنها وقوف العرب وقطاع الطريق بجميع الجهات القبلية والبحرية والشرقية والغربية والمنوفية والقليوبية والدقهلية وسائر النواحي، فمنعوا السبيل ولو بالخفارة وقطعوا طريق السفار ونهبوا المارين من أبناء السبيل والتجار، وتسلطوا على القرى والفلاحين وأهالي البلاد والحرف بالعري والخطف للمتاع والمواشي من البقر والغنم والجمال والحمير وإفساد المزارع ورعيها، حتى كان أهل البلاد لا يمكنهم الخروج ببهائمهم الى خارج القرية للرعي أو للسقي لترصد العرب لذلك، ووثب أهل القرى على بعضهم بالعرب، فداخلوهم وتطاولوا عليهم وضربوا عليهم الضرائب، وتلبسوا بأنواع الشرور، واستعان بعضهم على بعض، وقوي القوي على الضعيف وطمعت العرب في أهل البلاد، وطلبوهم بالثارات والعوائد القديمة الكاذبة، وآن وقت الحصاد فاضطروا لمسالمتهم لقلة الضم، فلما انقضت حروب الفرنسيس نزلوا الى البلاد واحتجوا عليهم بمصادقتهم العرب، فضربوهم ونهبوهم وسبوهم وطالبوهم بالمغارم والكلف الشاقة، فإذا انقضوا وانتقلوا عنهم رجعت العرب على أثرهم، وهكذا كان حالهم وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.
ومنها أن النيل قصر مده في هذه السنة فشرقت البلاد وارتحل أهل البحيرة الى المنوفية والغربية فاستحسن رحيل عربان البحيرة لأنه بقي لهم في الحي نخيل.
ومنها أنه لما حضرت العثمانية وشاع أمر الصلح وخضوع الفرنساوية لهم، نزل طائفة من الفرنسيس الى المنوفية وطلبوا من أهلها كلفة لرحيلهم، فلما مروا بالمحلة الكبيرة تعصب أهلها واجتمعوا الى قاضيها، وخرج لحربهم، فأكمن الفرنسيس لهم وضربوا عليهم طلقاً بالمدافع البنادق فقتلوا منهم نيفاً وستمائة إنسان، ومنهم القاضي وغيره، ولم ينج منهم إلا من فر وكان طويل العمر، وكذلك أهل طنتداء عند حضورهم إليهم وصل إليهم رجل من الجزارين المنتسبين للعثمانية من جهة الشرق لزيارة سيدي أحمد البدوي، وهو راكب على فرس وحوله نحو الخمسة أنفار، وكان بعض الفرنسيس بداخل البلدة يقضون بعض أشغالهم، فصاحت السوقة والبياعون عند رؤية ذلك الرجل بقولهم: نصر الله دين الإسلام، وهاجوا وماجوا ولقلقت النساء بألسنتهن وصاحت الصبيان وسخروا بالفرنسيس، وتراموا بما على رؤوسهم. وضربوهم وجرحوهم وطردوهم فتسحبوا من عندهم فغابوا ثلاثة أيام، ورجعوا بجمعي عسكرهم ومعهم الآلات من المدافع، فاحتاطوا بالبلدة وضربوا عليهم مدفعاً ارتجوا له، ثم هجموا عليه ودخلوا إليهم وبأيديهم السيوف المسلولة ويقدمهم طبلهم، وطلبوا خدمة الضريح الذين يقال لهم أولاد الخادم، وهم ملتزمو البلدة وأكابرها ومتهمون بكثرة الأموال من قديم الزمان، وكانوا قبل ذلك بنحو ثلاثة أشهر قبضوا عليهم بإغراء القبط وأخذوا منهم خمسة عشر ألف ريال فرانسة بحجة مسالمتهم للعرب، فلما وصلوا الى دورهم طلبوهم فلم يمكنهم التغيب خوفاً على نهب الدور وغير ذلك، فظهروا لهم فأخذوهم الى خارج البلد وقيدوهم، وأقاموا نحو خمسة أيام خارجها يأخذون في كل يوم ستمائة ريال سوى الأغنام والكلف، ثم ارتحلوا وأخذوا المذكورين صحبتهم الى منوف وحبسوهم أياماً، ثم نقلوهم الى الجيزة أيام الحرابة بمصر.
فلما انقضت تلك الأيام وسرحوا في البلاد، نزلت طائفة في طنتداء وهم بصحبتهم وقرروا عليهم أحداً وخمسين ألف ريال فرانسة، وعلى أهل البلدة كذلك، بل أزيد وأقاموا حول البلد محافظين عليهم وأطلقوا بعضهم، وحجزوا المسمى بمصطفى الخادم لأنه صاحب الأكثر في الوظيفة والالتزام وطالبوه بالمال، وفي كل وقت ينوعون عليه العقاب والعذاب والضرب حتى على كفوف يديه ورجليه، ويربطونه في الشمس في قوة الحر والوقت مصيف وهو رجل جسيم كبير الكرش، فخرجت له نفاخات في جسده، ثم أخذوا خليفة المقام أيضاً وذهبوا به الى منوف ثم ردوه وولوه رئاسة جمع الدراهم المطلوبة من البلد، فوزعت على الدور والحوانيت والمعاصر وغير ذلك، واستمروا على ذلك الى انقضاء العام حتى أخذوا عساكر المقام وكانت من ذهب خالص زنتا نحو خمسة آلاف مثقال، وأما المحلة الكبرى فإنهم رجعوا عليها وقرروا عليها نيفاً ومائة ألف ريال فرانسة وأخذوا في تحصيلها وتوزيعها، وهجموا دورها وتتبع المياسير من أهلها، كل ذلك مع استمرار طلب الكلف الشاقة في كل يوم منها ومن طنتداء والتعنت عليهم وتسلط طوائف الكشوفية التابعين لهم الذين هم أقبح في الظلم من الفرنسيس بل ومن العرب، فإنهم معظم البلاد أيضاً، فإنهم هم الذين يعرفون دسائس أهل البلاد ويشيعون أحوالهم ويتجسسون على عوراتهم ويغرون بهم.
واستمروا على ذلك أيضاً ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون.
ومنها أنه لما وقع الصلح بين العثمانية والفرنساوية أرسل الوزير فرمانات للثغور بإطلاق الأسافيل وحضور المراكب والتجار بالبضائع وغيرها الى ثغر الإسكندرية وصحبتها ثلاثة غلايين سلطانية، وسفن مشحونة بالذخيرة لحضرة الوزير، ولوازم العسكر العثماني، فلما قربوا من الثغر أقاموا البنديرات وضربوا مدافع للشنك، فطمعهم الفرنساوية وأظهروا لهم المسالمة وأظهروا لهم بنديرة العثماني فدخلوا الى المينا ورموا مراسيم ووقعوا في فخ الفرنسيس، فاستولوا على الجميع وأخذوا مدافعهم وسلاحهم وحبسوا القبابطين وأعيان التجار وأخذوا الملاحين والمتسببين من البحرية والنصارى الأروام، وهم عدة وافرة، أعطوهم سلاحاً وزيوهم بزيهم وأضافوهم الى عسكرهم، وأرسلوهم الى مصر فكانوا أقبح مذكور في تسلطهم على إيذاء المسلمين، ثم أخرجوا شحنة المراكب من بضائع ويميش وحازوه بأجمعه لأنفسهم. وبقي الأمر على ذلك، وكان ذلك في أواسط شهر القعدة.
ومنها أنه بعد نقض الصلح أرسل الفرنسيس عسكراً الى متسلم السويس الذي كان تولاها من طرف العثمانية، فتعصب معه أهل البندر فحاربوهم فغلبهم الفرنسيس وقتلوهم عن آخرهم ونهبوا البندر وما فيه من البن والبهار بحواصل التجار وغير ذلك.
ومنها أن مراد بك عند توجهه للصعيد بعد انقضاء الصلح أخذ ما جمعه درويش باشا من الصعيد من أغنام وخيول وميرة، وكان شيئاً كثيراً، فتسلم الجميع منه وعدى درويش باشا الى الجهة الشرقية متوجهاً الى الشام، وأرسل مراد بك جميع ذلك للفرنساوية بمصر.
ومنها أيضاً انقضاء المحاربة واستيلاء الفرنسيس على المخازن والغلا التي كان جمعها العثمانية من البلاد الشرقية وبعض البلاد الغربية والقليوبية، وكذلك الشعير والأتبان، طلب الفرنساوية مثل ذلك من البلاد وقرروا على النواحي غلالاً وشعيراً وفولاً وتبناً، وزادوا خيلاً وجمالاً، فوقع على كل إقليم زيادة عن ألف فرس وألف جمل، سوى ما يدفع مصالحة على قبولها للوسائط وهو نحو ثمنها أو أزيد، وكذلك التعنت في نقض الغلال وغربلتها وغير ذلك. وكل ذلك بإرشاد القبطة وطوائف البلاد، لأنهم هم الذين تقلدوا المناصب الجليلة وتقاسموا الأقاليم والتزموا لهم بجمع الأموال، ونزل كل كبير منهم الى إقليم وأقام بسرة الإقليم مثل الأمير والعساكر الفرنساوية، وهو في أبهة عظيمة وصحبته الكتبة والصيارف والأتباع والأجناد من الغز البطالة وغيرهم والخيام والخدم والفراشون والطباخون والحجاب، وتقاد بين يديه الجنائب والبغال والرهونات والخيول المسومة والقواسة، والمقدمون، وبأيديهم الحراب المفضضة والمذهبة والأسلحة الكاملة والجمال الحاملة، ويرسل الى ولايات الإقليم من جهته المتسوفين من القبط أيضاً بمنزلة الكشاف، ومعهم العسكر من الفرنساوية والطوائف والجاويشية والصرافين والمقدمين على الشرح المذكور، فينزلون على البلاد والقرى ويطلبون المال والكلف الشاقة بالعسف، ويؤجلونهم بالساعات، فإن مضت ولم يوفوهم المطلوب حل بهم ما حل من الحرق والنهب والسلب والسبي، وخصوصاً إذا فر مشايخ البلدة من خوفهم وعدم قدرتهم، وإلا قبضوا عليهم وضربوهم بالمقارع والكسارات على مفاصلهم وركبهم، وسحبوهم معهم في الحبال وأذاقوهم أنواع النكال، وخاف من بقي فصانعوهم وأتباعهم بالبراطيل والرشوات وانضم إليهم الأسافل من القبط والأراذل من المنافقين، وتقربوا إليهم بما يستميلون قلوبهم به وما يستجلبونه لهم من المنافع والمظالم، وأجهدوا أنفسهم في التشفي من بعضهم وما يوجب الحقد والتحاسد الكامن في قلوبهم، الى غير ذلك ما يتعذر ضبطه، وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون.